فصل: الآية رقم ‏(‏2 ‏:‏ 4‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة النساء

 مقدمة

قال العوفي عن ابن عباس‏:‏ نزلت سورة النساء بالمدينة وقال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة‏}‏ الآية، ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏}‏ الآية، ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشر به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏، ‏{‏لو أنه إذ ظلموا أنفسهم جاؤك‏}‏ الآية، وقوله ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيما‏}‏ رواه ابن جرير‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 

">الآية رقم ‏(‏1‏)‏">

الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ‏}‏

أمر اللّه تعالى خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من ‏{‏نفس واحدة‏}‏ وهي آدم عليه السلام ‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏ وهي حواء عليها السلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليه وأنست إليه‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ خلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن قتادة عن ابن عباس‏"‏وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وأن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالا كثيراً ونساء‏}‏ أي وذرأ منهما‏:‏ أي من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف اصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا اللّه الذي تساءلون به والأرحام‏}‏ أي واتقوا اللّه بطاعتكم إياه، قال مجاهد والحسن‏:‏ ‏{‏الذي تساءلون به‏}‏ أي كما يقال أسألك باللّه وبالرحم، وقال الضحاك‏:‏ واتقوا اللّه الذي تعاقدون وتعاهدون به واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها قاله ابن عباس وعكرمة‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏والأرحام‏}‏ بالخفض عطفاً على الضمير في به أي تساءلون باللّه وبالأرحام كما قال مجاهد وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان عليكم رقيبا‏}‏ أي هو مراقب لجميع أحوالكم وأعمالكم، كما قال‏:‏ ‏{‏واللّه على كل شيء شهيد‏}‏؛ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏اعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة، ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم على ضعفائهم، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد اللّه البجلي‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر - وهم مجتابو النِّمار أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر، فقال في خطبته‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ حتى ختم الآية، ثم قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏}‏ ثم حضهم على الصدقة، فقال‏:‏ ‏(‏تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره‏)‏ ‏"‏هو جزء من حديث آخرجه مسلم وأصحاب السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة‏"‏وذكر تمام الحديث‏.‏

 الآية رقم ‏(‏2 ‏:‏ 4‏)‏

‏{‏ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ‏.‏ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ‏.‏ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ‏}‏

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب‏}‏ قال سفيان الثوري‏:‏ لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدّر لك، وقال سعيد بن جبير‏:‏ لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول‏:‏ لا تبدلوا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا، وقال الضحاك لا تعط زيقاً وتأخذ جيداً، وقال السدي‏:‏ كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول‏:‏ شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ قال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعاً، وقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان حوباً كبيرا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي إثماً عظيماً‏.‏ وفي الحديث المروي في سنن أبو داود‏:‏ ‏(‏اغفر لنا حوبنا وخطايانا‏)‏ وروى ابن مردويه بإسناده عن ابن عباس‏:‏ أن أبا أيوب طلق امرأته، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوبا‏(‏ قال ابن سيرين‏:‏ الحوب الإثم، وعن أنس‏:‏ أن أبا ايوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن طلاق أم أيوب لحوب‏)‏ فأمسكها والمعنى‏:‏ إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى‏}‏ أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها، فإنهن كثير ولم يضيق اللّه عليه، وقال البخاري عن عائشة‏:‏ أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا‏}‏ أحسبه قال‏:‏ كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله، ثم قال البخاري‏:‏ عن ابن شهاب قال‏:‏ أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول اللّه تعالى ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏}‏ قالت‏:‏ يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقْسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب له من النساء سواهن، قال عروة‏:‏ قالت عائشة‏:‏ وإن الناس استفتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ويستفتونك في النساء‏}‏ قالت عائشة‏:‏ وقول اللّه في الآية الأخرى‏:‏ و‏{‏ترغبون أن تنكحوهن‏}‏ رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال‏.‏

وقوله ‏{‏مثنى وثلاث ورباع‏}‏ أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع‏}‏ أي منهم من له جناحان، ومنه من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على اربع فمن هذه الآية كما قال ابن عباس وجمهور العلماء، لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره، قال الشافعي‏:‏ وقد دلت سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المبينة عن اللّه أنه لا يجوز لأحد غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكى عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع، وقال بعضهم‏:‏ بلا حصر وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيح، وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع، ولنذكر الأحاديث في ذلك‏.‏ قال الإمام أحمد عن سالم عن أبيه‏:‏ أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اختر منهن أربعا‏)‏، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال‏:‏ إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تلبث إلا قليلا، وأيم اللّه لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال ‏"‏رواه الترمذي وابن ماجة والدار قطني إلى قوله‏:‏ ‏{‏اختر منهن أربعاً‏}‏ والباقي من رواية أحمد‏}‏ وعن ابن عمر‏:‏ أن ‏"‏غيلان بن سلمة‏"‏كان عنده عشر نسوة، فأسلم وأسلمن معه فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً، هكذا أخرجه النسائي في سننه‏.‏ فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوّغ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد اسلمن، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن، دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال، فإذا كان هذا في الدوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، واللّه سبحانه أعلم بالصواب‏.‏

‏"‏حديث آخر‏"‏قال الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلي قال‏:‏ أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏اختر أربعا أيتهن شئت وفارق الأخرى‏)‏، فعمدت إلى أقدمهن صحبة، عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها، فهذه كلها شواهد لحديث غيلان كما قاله البيهقي، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم‏}‏ أي إن خفتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم‏}‏ فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أن لا تعولو‏}‏ قال بعضهم‏:‏ ذلك أدنى أن لاتكثر عيالكم قاله زيد بن اسلم والشافعي وهو مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏ أي فقرأ ‏{‏فسوف يغنيكم اللّه من فضله إن شاء‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

فما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل‏؟‏

وتقول العرب‏:‏ عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، ولكن في هذا التفسير ههنا نظر، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراي أيضاً، والصحيح قول الجمهور‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏ أي لا تجوروا يقال‏:‏ عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة‏:‏

بميزان قسط لا يخيس شعيرةً * له شاهد من نفسه غير عائل

عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏ذلك أدنى ألا تعولوا‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏لا تجوروا‏)‏، روي مرفوعاً والصحيح عن عائشة أنه موقوف، وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد أنهم قالوا‏:‏ لا تميلوا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ النحلة‏:‏ المهر عن عائشة نحلة‏:‏ فريضة، وقال ابن زيد‏:‏ النحلة في كلام العرب الواجب، يقول‏:‏ لا تنكحها إلا بشي واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعيد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ومضمون كلامهم أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيباً، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيباً بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالاً طيباً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً‏}‏ وقال هشيم‏:‏ كان الرجل إذا زوج بنته أخذ صداقها دونها فنهاهم اللّه عن ذلك ونزل‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5 ‏:‏ 6‏)‏

‏{‏ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ‏.‏ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ‏}‏

ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال، التي جعلها اللّه للناس قياماً، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام‏:‏ فتارة يكون الحجر للصغر، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفَلس وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه، وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏ قال‏:‏ هم بَنُوكَ والنساء، وقال الضحاك‏:‏ هم النساء والصبيان، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هم اليتامى، وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ هم النساء، وقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيّمها‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن ابي حاتم ورواه ابن مردويه مطولاً‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا‏}‏ قال ابن عباس لا تعمد إلى مالك وما خوّلك اللّه وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنتك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم‏.‏ وقال ابن جرير عن أبي موسى قال‏:‏ ثلاثة يدعون اللّه فلا يستجيب لهم، رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهاً، وقد قال اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏وقولوا لهم قولا معروفا‏}‏ يعني في البر والصلة، وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة في الكساوى والأرزاق، بالكلام الطيب وتحسين الأخلاق

وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ أي اختبروهم ‏{‏حتى إذا بلغوا النكاح‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني الحلم، قال الجمهور من العلماء‏:‏ البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وعن علي‏:‏ قال حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏)‏لا يُتْمَ بعد احتلام، ولا صُمَات يومٍ إلى الليل‏)‏ وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحلم - أي يستكمل خمس عشرة سنة - وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق‏)‏، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحن عن ابن عمر قال‏:‏ عُرِضتُ على النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد وأنا ابن اربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث‏:‏ إن هذا الفرق بين الصغير والكبير، وقال أبو عبيد في الغريب عن عمر‏:‏ أن غلاما ابتهر جارية في شعره، فقال عمر‏:‏ انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد، قال أبو عبيدة‏:‏ ابتهرها أي قذفها، والإبتهار‏:‏ أن يقول فعلت بها وهو كاذب، فإن كان صادقاً فهو الإبتهار قال الكميت في شعره‏:‏

قبيح بمثلي نعت الفتاة * إما ابتهاراً وإما ابتيارا

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ يعني صلاحا في دينهم وحفظاً لأموالهم كذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة، وهكذا قال الفقهاء‏:‏ إذا بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله انفك الحجر عنه، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا‏}‏ ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية ‏{‏إسرافاً وبداراً‏}‏ أي مبادرة قبل بلوغهم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف‏}‏ عنه ولا يأكل منه شيئاً، وقال الشعبي‏:‏ هو عليه كالميتة والدم، ‏{‏ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏ نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجاً أن يأكل منه‏.‏ عن عائشة قالت‏:‏ أنزلت هذه الآية في والي اليتيم ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏ بقدر قيامه عليه‏.‏ قال الفقهاء‏:‏ له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته، واختلفوا هل يرد إذا أيسر‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما لا، لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل‏.‏

روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إن عندي يتيماً عنده مال وليس لي مال، آكل من ماله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ كل بالمعروف غير مسرف‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وأبو داود والنسائي‏"‏‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال‏:‏ إن في حجري أيتاماً، وإن لهم إبلاً ولي إبل، وأنا أمنح من إبلي فقراء، فماذا يحل من ألبانها‏؟‏ فقال‏:‏ إن كنت تبغي ضالتها وتهنا جرباها وتلوط حوضها وتسعى عليها فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب ‏"‏أخرجه ابن جرير ورواه مالك في الموطأ‏"‏‏.‏ والثاني‏:‏ نعم، لأن مال اليتيم على الحظر، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة، وقد قال ابن أبي الدنيا‏:‏ قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏، قال‏:‏ يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وقال عامر الشعبي‏:‏ لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه ‏{‏ومن كان غنياً فليستعفف‏}‏ يعني من الأولياء ‏{‏ومن كان فقيراً‏}‏ أي منهم ‏{‏فليأكل بالمعروف‏}‏ أي بالتي هي أحسن كما قال في الآية الأخرة‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده‏}‏ أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دفعتم إليهم أموالهم‏}‏ يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ‏{‏فأشهدوا عليهم‏}‏ وهذا أمر من اللّه تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وكفى باللّه حسيباً‏}‏ أي وكفى باللّه حسيباً وشاهداً ورقيباً على الأولياء، في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم لأموالهم، هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة‏؟‏ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا ابا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي‏:‏ لا تَأَمرنَّ على اثنين، ولا تَلِينَ مال يتيم‏)‏

----------------

لا يُتْم‏:‏ بسكون التاء‏.‏ يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام

----------------

 الآية رقم ‏(‏7 ‏:‏ 10‏)

‏{‏ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ‏.‏ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ‏.‏ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ‏.‏ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ‏}‏

قال سعيد بن جبير وقتادة‏:‏ كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئاً فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ الآية‏.‏ أي الجميع فيه سواء في حكم اللّه تعالى، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض اللّه لكل منهم، بما يدلى به إلى الميت من قرابة، أو زوجيه، أو ولاء، فإنه لحمة كلحمة النسب‏.‏ وروى ابن مردويه عن جابر قال‏:‏ ‏{‏أتت أم كحة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء‏.‏ فأنزل اللّه تعالى ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة‏}‏ الآية‏.‏ قيل‏:‏ المراد‏:‏ وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث، ‏{‏واليتامى والمساكين‏}‏ فليرضخ لهم من التركة نصيب، وإن ذلك كان واجباً في ابتداء الإسلام، وقيل‏:‏ يستحب، واختلفوا هل هو منسوخ أم لا‏؟‏ على قولين، فقال البخاري عن ابن عباس‏:‏ هي محكمة وليست بمنسوخة، وقال عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى‏}‏ نسختها الآية التي بعدها ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم‏}‏ وروى العوفي عن ابن عباس‏:‏ كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل اللّه بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سمَّى المتوفى، وقال ابن أبي حاتم عن عطاء عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين‏}‏ نسختها آية الميراث، فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر‏.‏ وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم، والمعنى‏:‏ أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه، وإذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا شيء يُعطَونه، فأمر اللّه تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم وصدقة عليهم، وإحساناً إليهم وجبراً لكسرهم، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر به عن أصحاب الجنة‏:‏ ‏{‏إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين‏}‏ أي بليل، وقال‏:‏ ‏{‏فانطلقوا وهم يتخافتون* أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين‏}‏ ف ‏{‏دمر اللّه عليهم وللكافرين أمثالها‏}‏ فمن جحد حق اللّه عليه عاقبه في أعز ما يملكه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليخش الذي لو تركوا من خلفهم‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر اللّه تعالى الذي يسمعه أن يتقي اللّه ويوفقه ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يجب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة؛ وهكذا قال مجاهد وغير واحد، وثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده، قال‏:‏ يا رسول اللّه إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي، قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فالشطر‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فالثلث قال‏:‏ ‏(‏الثلث، والثلث كثير‏)‏ ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس‏)‏ وفي الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الثلث، والثلث كثير‏)‏

قال الفقهاء‏:‏ إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث؛ وقيل‏:‏ المراد بالآية فليتقوا اللّه في مباشرة أموال اليتامى ‏{‏ولا يأكلوها إسرافاً وبداراً‏}‏ حكاه ابن جرير عن ابن عباس، وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً، أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم، ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلماً فإنما يأكل في بطنه ناراً ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً‏}‏ أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة - وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اجتنبوا السبع الموبقات‏:‏ قيل يا رسول اللّه وما هن‏؟‏ قال‏:‏ الشرك باللّه، والسحر؛ وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق؛ وأكل الربا، وأكل مال اليتيم؛ والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‏)‏ وقال السدي‏:‏ يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم، وقال ابن مردويه عن أبي برزة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً‏)‏ قيل يا رسول اللّه من هم‏؟‏ قال‏:‏ ألم أن اللّه قال‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً‏}‏ الآية‏.‏ وعن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أُحَرِّج مال الضعيفين‏:‏ المرأة، واليتيم‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه من حديث أبي هريرة‏"‏أي أوصيكم باجتناب مالهما

 الآية رقم ‏(‏11‏)‏

‏{‏ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ‏}‏

هذه الآية الكريمة والتي بعدها، والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك، ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتب الأحكام واللّه المستعان‏.‏

وقد ورد  الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك؛ روى أبو داود وابن ماجة عن عبد اللّه بن عمروا مرفوعاً‏:‏ ‏(‏العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل‏:‏ آية محكمة، أو سنّة قائمة، أو فريضة عادلة‏)‏، وعن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي‏)‏ ‏"‏رواه ابن ماجة وفي إسناده ضعيف‏"‏قال ابن عيينة‏:‏ إنما سمي الفرائض نصف العلم لأنه يبتلى به الناس كلهم، وقال البخاري عند تفسيره هذه الآية‏:‏ عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ عادني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى اللّه عليه وسلم لا أعقل شيئاً، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت‏:‏ ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول اللّه فنزلت‏:‏ ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث جابر‏}‏

حديث آخرعن جابر قال‏:‏ جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أُحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال‏:‏ ‏(‏يقضي اللّه في ذلك‏)‏ فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عمهما فقال‏:‏ ‏(‏أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة‏"‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ أي يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكر دون الإناث، فأمر اللّه تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة، ومعاناة التجارة والتكسب، تحمل المشاق فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه ما تأخذه الأنثى، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم‏.‏ وقال البخاري عن ابن عباس‏:‏ كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين؛ فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن الربع، وللزوج الشطر والربع‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ لما نزلت الفرائض التي فرض اللّه فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا‏:‏ تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى الإبنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم؛ ولا يحوز الغنيمة؛ اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينساه؛ أو نقول له فيغير‏!‏ فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها؛ وليست تركب الفرس؛ ولا تقاتل القوم، ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً؛ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية؛ لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم؛ ويعطونه الأكبر فالأكبر، فنزلت الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك‏}‏ قال بعض الناس‏:‏ قوله ‏(‏فوق‏)‏ زائدة، وتقديره فإن كن نساء اثنتين كما في قوله‏:‏ ‏{‏فاضربوا فوق الأعناق‏}‏ وهذا غير مسلَّم لا هنا ولا هناك، فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه‏.‏ وهذا ممتنع، ثم قوله‏:‏ ‏{‏فلهن ثلثا ما ترك‏}‏ لو كان المراد ما قالوه لقال فلهما ثلثا ما ترك‏:‏ وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين‏.‏ وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بالطريق الأولى، وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين فدل الكتاب والسنة على ذلك، وأيضاً فإنه قال‏:‏ ‏{‏وإن كانت واحدة فلها النصف‏}‏، فلو كانت للبنتين النصف لنص عليه ايضاً لما حكم به للواحدة على انفرادها؛ دل على أن البنتين في حكم الثلاث واللّه أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأبويه لكل واحد منهما السدس‏}‏ إلى آخره، الأبوان لهما في الإرث أحوال‏:‏ أحدهاأن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة، فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس؛ وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب الحال الثاني‏:‏ أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم الثلث والحالة هذه أخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض؛ فيكون قد أخذ ضعفي ما حصل للأم وهو الثلثان، فلو كان معهما زوج أو زوجة ويأخذ الزوج النصف والزوجة الربع‏.‏ ثم اختلف العلماء‏:‏ ماذا تأخذ الأم بعد ذلك، على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين؛ لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما، وقد جعل اللّه لها نصف ما جعل للأب، فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب الباقي ثلثيه؛ هذا قول عمر وعثمان؛ وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء والثاني‏:‏ أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث‏}‏، فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا؛ وهو قول ابن عباس، وهو ضعيف‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجةخاصة، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب، وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة‏:‏ للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان‏.‏ ويحكى هذا عن ابن سيرين، وهو مركب من القولين الأولين، وهو ضعيف أيضاً، والصحيح الأول واللّه أعلم والحال الثالث من أحوال الأبوين وهو اجتماعهما مع الأخوة، سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وراث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الأخوة عند الجمهور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة فلأمه السدس‏}‏ أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخر الواحد عن الثلث ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقتهم عليه دون أمهم، وهذا كلام حسن‏.‏

وقوله ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏}‏ أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة، وروى أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ إنكم تقرأون ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين‏}‏ وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الاعيان‏:‏ الإخوة من الأب والأم و العلات‏:‏ الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آياؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ أي إنما فرضنا للآباء والأبناء، وساوينا بين الكل في أصل الميراث، على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه ما لا يأتيه من أبنه، وقد يكون بالعكس، ولذا قال‏:‏ ‏{‏آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ أي أن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من الآخر، فلهذا فرضنا لهذا وهذا، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث، واللّه أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فريضة من اللّه‏}‏ أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من اللّه حكم به وقضاه، واللّه عليم حكيم، والحكيم‏:‏ الذي يضع الأشياء في محالها ويعطي كلاً ما يستحقه بحسبه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان عليماً حكيماً‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏12‏)‏

‏{‏ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن عن غير ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد الوصية أو الدين، وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولهن الربع مما تركتم‏}‏ إلى آخره، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الإثنتان، والثلاث والأربع يشتركن فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من بعد وصية‏}‏ الخ‏.‏ الكلام عليه كما تقدم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان رجل يوث كلالة‏}‏ الكلالة‏:‏ مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن الكلالة فقال‏:‏ أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن اللّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه‏:‏ الكلالة من لا ولد له ولا والد‏.‏ فلما ولي عمر قال‏:‏ إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه، كذا رواه ابن جرير وغيره، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف وقد حكى الإجماع عليه غير واحد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله أخ أو أخت‏}‏ أي من أم كما هو في قراءة سعد بن أبي وقاص وكذا فسرها أبو بكر الصديق‏:‏ ‏{‏فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث‏}‏ وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه‏:‏ أحدهاأنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم، والثاني أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء، والثالث لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن، الرابع أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم، قضى عمر أن ميراث الأخوة من الأم بينهم للذكر مثل حظ الأنثى، قال الزهري‏:‏ ولا أرى عمر قضى بذلك حتىعلم ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذه الآية هي التي قال اللّه تعالى فيها‏:‏ ‏{‏فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث‏}‏‏.‏

و اختلف العلماء في المسألة المشتركة وفي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين، فعلى قول الجمهور للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولولد الأم الثلث ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو أخوة الأم، وقد وقعت هذه المسألة في زمان أمير المؤمنين عمر فأعطى الزوج النصف والأم السدس، وجعل الثلث لأولاد الأم فقال له أولاد الأبوين‏:‏ يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة‏؟‏ فشرّك بينهم وهو مذهب مالك والشافعي‏.‏ وكان علي بن أبي طالب لا يشرّك بينهم، بل يجعل الثلث لأولاد الأم، ولا شي لأولاد الأبوين، والحالة هذه لأنهم عصبة، وقال وكيع بن الجراح‏:‏ لم يُخْتلف عنه في ذلك، وهذا قول أبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري وهو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه اللّه في كتاب الإيجاز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار‏}‏ أي لتكن وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف، بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه، أو يزيده على ما فرض اللّه له من الفريضة، فمن سعى في ذلك كان كمن ضاد اللّه في حكمه وشرعه، ولهذا قال ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الإضرار في الوصية من الكبائر‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏"‏ورواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً، قال‏:‏ والصحيح الموقوف، ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث هل هو صحيح أم لا‏؟‏ على قولين أحدهما‏:‏ لا يصح لأنه مظنة التهمة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث‏)‏، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة والقول القديم للشافعي رحمهم اللّه، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار، وهو مذهب طاوس وعطاء وهو اختيار البخاري في صحيحه، واحتج بأن رافع بن خديج أوصى أن لا تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها قال‏:‏ وقال بعض الناس‏:‏ لا يجوز إقراره لسوء الظن بالورثة، وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث‏)‏، وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ فلم يخص وارثاً ولا غيره، انتهى ما ذكره، فمتى كان الإقرار صحيحاً مطابقاً لما في نفس الأمر، جرى فيه هذا الخلاف، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏غير مضار وصية من اللّه، واللّه عليم حليم‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13 ‏:‏ 14‏)‏

‏{‏ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ‏.‏ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ‏}‏

أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها اللّه للورثة، بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود اللّه فلا تعتدوها ولا تجاوزوها، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ومن يطع اللّه ورسوله‏}‏ أي فيها فلم يزد بعض الورثة، ولم ينقص بعضهم بحيلة ووسيلة بل تركهم على حكم اللّه وفريضته وقسمته‏:‏ ‏{‏يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم‏.‏ ومن يعص اللّه ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين‏}‏ أي لكونه غيَّر ما حكم اللّه به، وضاد اللّه في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم اللّه وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم‏.‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة‏)‏، قال، ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏تلك حدود اللّه - إلى قوله - عذاب مهين‏}‏ وقال أبو داود في باب الإضرار في الوصية عن شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعم أو المرأة بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار‏)‏ وقال‏:‏ قرأ عليَّ أبو هريرة من ههنا‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار - حتى بلغ - ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏